فصل: الآية رقم ‏(‏267‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏260‏)‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم‏}‏

اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس الخبر كالمعاينة‏)‏ رواه ابن عباس ولم يروه غيره، قاله أبو عمر‏.‏ قال الأخفش‏:‏ لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين‏.‏ وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع‏:‏ سأل ليزداد يقينا إلى يقينه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وترجم الطبري في تفسيره فقال‏:‏ وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى‏.‏ وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال‏:‏ ما في القرآن آية أرجى عندي منها‏.‏ وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال‏:‏ دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال‏:‏ رب أرني كيف تحيي الموتى‏.‏ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏)‏ الحديث، ثم رجح الطبري هذا القول‏.‏

قلت‏:‏ حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن ‏؟‏ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس‏:‏ ‏(‏هي أرجى آية‏)‏ فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك‏.‏ ويجوز أن يقول‏:‏ هي أرجى آية لقوله ‏{‏أو لم تؤمن‏{‏ أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث‏.‏ وأما قول عطاء‏:‏ ‏(‏دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس‏)‏ فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم‏.‏ وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏)‏ فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ذلك محض الإيمان‏)‏ إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام‏.‏ وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً‏.‏ وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نحو قولك‏:‏ كيف علم زيد‏؟‏ وكيف نسج الثوب ‏؟‏ ونحو هذا‏.‏ ومتى قلت‏:‏ كيف ثوبك ‏؟‏ وكيف زيد ‏؟‏ فإنما السؤال عن حال من أحواله‏.‏ وقد تكون ‏{‏كيف‏{‏ خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك‏:‏ كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري‏:‏ كيف كان بدء الوحي‏.‏ و‏{‏كيف‏{‏ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع‏:‏ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له‏:‏ أرني كيف ترفعه فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول‏:‏ افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له‏{‏أو لم تؤمن قال بلى‏{‏ فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة‏.‏

قلت‏:‏ هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث‏.‏ وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ وقال اللعين‏:‏ إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله‏{‏أرني كيف‏{‏ طلب مشاهدة الكيفية‏.‏ وقال بعض أهل المعاني‏:‏ إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب، وهذا فاسد مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي، وليست الألف في قوله ‏{‏أو لم تؤمن‏{‏ ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا

والواو واو الحال‏.‏ و‏{‏تؤمن‏{‏ معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏{‏ أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا‏.‏ والطمأنينة‏:‏ اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ثم اركع حتى تطمئن راكعا‏)‏ الحديث‏.‏ وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد‏.‏ والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء‏.‏ وقال الطبري‏:‏ معنى ‏{‏ليطمئن قلبي‏{‏ ليوقن، وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لأزداد إيمانا مع إيماني‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض‏.‏ وقال السدي وابن جبير أيضا‏:‏ أو لم تؤمن بأنك خليلي‏؟‏ قال‏:‏ بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة‏.‏ وقيل‏:‏ دعا أن يريه كيف يحيي الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له‏:‏ أو لم تؤمن أني أجيب دعاءك، قال‏:‏ بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب دعائي‏.‏

واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل‏:‏ إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد‏.‏ وقيل‏:‏ قول النمروذ‏:‏ أنا أحيي وأميت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق،

قوله تعالى‏{‏قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم‏{‏ فقيل له‏{‏خذ أربعة من الطير‏{‏ قيل‏:‏ هي الديك والطاووس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد‏.‏ وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر‏.‏ فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال‏:‏ تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن‏.‏ ولا يقال للطائر‏{‏سعى‏{‏ إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس‏.‏ وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقي كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد جزءا‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ‏{‏جزءا‏{‏ على فعل‏.‏ وعن أبي جعفر أيضا ‏{‏جزا‏{‏ مشددة الزاي‏.‏ الباقون مهموز مخفف، وهي لغات، ومعناه النصيب‏.‏ ‏{‏يأتينك سعيا‏{‏ نصب على الحال‏.‏ و‏{‏صرهن‏{‏ معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال‏:‏ صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق‏.‏ وعن أبي الأسود الدؤلي‏:‏ هو بالسريانية التقطيع، قاله توبة بن الحمير يصفه‏:‏

فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد سيورها

فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

أي يقطعها‏.‏ والصور‏:‏ القطع‏.‏ وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روي عنه‏:‏ إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال‏:‏ رجل أصْور إذا كان مائل العنق‏.‏ وتقول‏:‏ إني إليكم لأصور، يعني مشتاقا مائلا‏.‏ وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر‏:‏

الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور

فقوله ‏{‏إليك‏{‏ على تأويل التقطيع متعلق بـ ‏{‏خذ‏{‏ ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بـ ‏{‏صرهن‏{‏ وفي الكلام متروك‏:‏ فأملهن إليك ثم قطعهن‏.‏ وفيها خمس قراءات‏:‏ اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء‏.‏ وقرأ قوم ‏{‏فصرهن‏{‏ بضم الصاد وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير‏.‏ وقرأ قوم ‏{‏فصرهن‏{‏ بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك‏:‏ صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش‏.‏ قال ابن جني‏:‏ هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وهر الحرب يَهُرها ويهِرها، ومنه بيت الأعشى‏:‏

ليعتورنك القول حتى تهره

إلى غير ذلك في حروف قليلة‏.‏ قال ابن جني‏:‏ وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد‏.‏

القراءة الخامسة ‏{‏صرهن‏{‏ بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم‏:‏ صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة‏.‏ وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال‏:‏ فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله ‏{‏رب أرني أنظر إليك‏}‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ ‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏ أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف‏.‏ الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏261‏)‏

‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم‏}‏

لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم‏.‏‏"‏روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏ فنزلت ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة‏}‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏ فنزلت ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك‏.‏ وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة‏.‏ وطريق آخر‏:‏ مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏{‏ يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال‏:‏ ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله‏.‏

روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال‏:‏ يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت‏)‏‏.‏ وقال عثمان‏:‏ يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في نفقة التطوع‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة، ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت‏.‏ وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا‏.‏

قوله تعالى‏{‏كمثل حبة‏{‏ الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب، ومنه قول المتلمس‏:‏

آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس

وحبة القالب‏:‏ سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك‏.‏ والحبة بكسر الحاء‏:‏ بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل‏)‏ والجمع حبب‏.‏ والحبة بضم الحاء الحب يقال‏:‏ نعم وحبة وكرامة‏.‏ والحب المحبة وكذلك الحب بالكسر‏.‏ والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال‏.‏ وقيل‏:‏ معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه‏.‏ والجمع سنابل‏.‏ ثم قيل‏:‏ المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد‏.‏

قلت‏:‏ هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر‏.‏ وقال الطبري في هذه الآية‏:‏ إن قوله ‏{‏في كل سنبلة مائة حبة‏{‏ معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال‏{‏في كل سنبلة مائة حبة‏{‏ معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك‏.‏ وقال أبو عمرو الداني‏:‏ وقرأ بعضهم ‏{‏مائة‏{‏ بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة‏.‏

قلت‏:‏ وقال يعقوب الحضرمي‏:‏ وقرأ بعضهم ‏{‏في كل سنبلة مائة حبة‏{‏ على‏:‏ أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم ‏{‏وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم‏}‏الملك‏:‏ 6‏]‏ على ‏{‏وأعتدنا لهم عذاب السعير‏}‏الملك‏:‏ 5‏]‏ وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏أنبتت سبع سنابل‏{‏ بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان‏.‏ وأنشد أبو عمرو‏:‏

يا لعن الله بني السعلاة عمرو بن ميمون لئام النات

أراد الناس فحول السين تاء‏.‏ الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان‏.‏

ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف‏.‏ واختلف العلماء في معنى قوله ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏{‏ فقالت طائفة‏:‏ هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة‏.‏ وقالت طائفة من العلماء‏:‏ بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية‏.‏ وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبدالله بن عمرو وأبي أمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم - ثم تلا هذه الآية ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء الله‏{‏‏)‏‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس هذا بثابت الإسناد عنه‏.‏

في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم‏{‏ الآية‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة‏)‏‏.‏ وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التمسوا الرزق في خبايا الأرض‏)‏ يعني الزرع، أخرجه الترمذي‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في النخل‏:‏ ‏(‏هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل‏)‏‏.‏ وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار‏.‏ ولقي عبدالله بن عبدالملك بن شهاب الزهري فقال‏:‏ دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول‏:‏

أقول لعبدالله يوم لقيته وقد شد أحلاس المطي مشرقا

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها لعلك يوما أن تجاب فترزقا

فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا

وحكي عن المعتضد أنه قال‏:‏ رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال‏:‏ خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض‏.‏

 الآية رقم ‏(‏262‏)‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏{‏ قيل‏:‏ إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏ قال عبدالرحمن بن سمرة‏:‏ جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول‏:‏ ‏(‏ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان‏)‏‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول‏:‏ ‏(‏يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه‏)‏ فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى‏{‏ الآية‏.‏

لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، قال الله تعالى‏{‏لا نريد منكم جزاء ولا شكورا‏}‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى‏.‏ وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله‏.‏ وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال‏:‏

يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياتي وأمهنه

وكن لنا من الزمان جنة أقسم بالله لتفعلنه

قال عمر‏:‏ إن لم أفعل يكون ماذا ‏؟‏ قال‏:‏

إذاً أبا حفص لأذهبنه

قال‏:‏ إذا ذهبت يكون ماذا‏؟‏ - قال‏:‏

تكون عن حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه

وموقف المسؤول بينهنه إما إلى نار وإما جنه

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال‏:‏ يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل‏.‏ فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء‏.‏ وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا‏.‏ وقد قال ابن عباس في قوله تعالى‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏المدثر‏:‏ 6‏]‏ أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها‏.‏ وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال‏:‏ ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد‏.‏

قوله تعالى‏{‏منا ولا أذى‏{‏ المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول‏:‏ قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المن‏:‏ التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه‏.‏ والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى‏)‏‏.‏ وفي بعض طرق مسلم‏:‏ ‏(‏المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة‏)‏‏.‏ والأذى‏:‏ السب والتشكي، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه‏.‏ وقالت له امرأة‏:‏ يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة‏.‏ فقال‏:‏ لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله‏:‏ ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته فقال‏{‏لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏{‏‏.‏ وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى‏.‏ وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏263‏)‏

‏{‏قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قول معروف‏{‏ ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏قول معروف‏{‏ خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف‏.‏ والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع‏.‏ وقد قال بعض الحكماء‏:‏ الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره‏.‏ وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال‏:‏

لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسؤولا

لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولا

تلقى الكريم فتستدل ببشره وترى العبوس على اللئيم دليلا

واعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا

وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى، خرجه مسلم وغيره‏.‏ وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسؤول‏.‏ وقال بشر بن الحارث‏:‏ رأيت عليا في المنام فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به، قال‏:‏ ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله‏.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين زدني، فولى وهو يقول‏:‏

قد كنت ميتا فصرت حيا وعن قليل تصير ميتا

فاخرب بدار الفناء بيتا وابن بدار البقاء بيتا

قوله تعالى‏{‏ومغفرة‏{‏ المغفرة هنا‏:‏ الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي - وقد سأل قوما بكلام فصيح - فقال له قائل‏:‏ ممن الرجل ‏؟‏ فقال له‏:‏ اللهم غفرا‏!‏ سوء الاكتساب يمنع من الانتساب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه من المن والأذى، قال معناه النقاش‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هذا مشكل يبينه الإعراب‏.‏ ‏{‏مغفرة‏{‏ رفع بالابتداء والخبر ‏{‏خير من صدقة‏{‏‏.‏ والمعنى والله أعلم وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، وتقديره في العربية وفعل مغفرة‏.‏ ويجوز أن يكون مثل قولك‏:‏ تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله غني حليم‏{‏ أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏264‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏بالمن والأذى‏{‏ قد تقدم معناه‏.‏ وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي، لا غيرها‏.‏ والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها‏.‏

قال جمهور العلماء في هذه الآية‏:‏ إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل‏.‏ وقيل‏:‏ بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها، وهذا حسن‏.‏ والعرب تقول لما يمن به‏:‏ يد سوداء‏.‏ ولما يعطى عن غير مسألة‏:‏ يد بيضاء‏.‏ ولما يعطى عن مسألة‏:‏ يد خضراء‏.‏ وقال بعض البلغاء‏:‏ من من بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره‏.‏ وقال بعض الشعراء‏:‏

وصاحب سلفت منه إلي يد أبطا عليه مكافاتي فعاداني

لما تيقن أن الدهر حاربني أبدى الندامة فيما كان أولاني

وقال آخر‏:‏

أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنان

وقال أبو بكر الوراق فأحسن‏:‏

أحسن من كل حسن في كل وقت وزمن

صنيعة مربوبة خالية من المنن

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل‏:‏ فعلت إليك وفعلت‏!‏ فقال له‏:‏ اسكت فلا خير في المعروف، إذا أحصي‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا - ‏{‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏{‏‏)‏‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى‏.‏ واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولى غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى‏.‏ وهذا بخلاف صدقة التطوع السر، لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل‏.‏

قوله تعالى‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس‏{‏ الكاف في موضع نصب، أي إبطال ‏{‏كالذي‏{‏ فهي نعت للمصدر المحذوف‏.‏ ويجوز أن تكون موضع الحال‏.‏ مثل الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء‏.‏ ثم مثل هذا المنفق أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظان أرضا منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي‏.‏ فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية إبطال الفضل دون الثواب، فالقاصد بنفقته الرياء غير مثاب كالكافر، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب‏.‏ وخالف صاحب المن والأذى القاصد وجه الله المستحق ثوابه - وإن كرر عطاءه - وأبطل فضله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما يبطل المن ثواب صدقته من وقت منه وإيذائه، وما قبل ذلك يكتب له ويضاعف، فإذا من وآذى انقطع التضعيف، لأن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل، فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت، فإذا جاء المن بها والأذى وقف بههناك وانقطع زيادة التضعيف عنها، والقول الأول أظهر والله أعلم‏.‏ والصفوان جمع واحده صفوانة، قاله الأخفش‏.‏ قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ صفوان واحد، مثل حجر‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ صفوان واحد وجمعه صِفْوان وصُفِي وصِفِي، وأنكره المبرد وقال‏:‏ إنما صفي جمع صفا كقفا وقفي، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا، وقد تقدم‏.‏ وقرأ سعيد بن المسيب والزهري ‏{‏صفوان‏{‏ بتحريك الفاء، وهي لغة‏.‏ وحكى قطرب صفوان‏.‏ قال النحاس‏:‏ صَفْوان وصَفَوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا، إلا أن الأولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل‏{‏عليه تراب فأصابه وابل‏{‏ وإن كان يجوز تذكير الجمع إلا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلا بدليل قاطع، فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس بصحيح على حقيقة النظر، ولكن صفوان جمع صفاً، وصفاً بمعنى صفوان، ونظيره ورل وورلان وأخ وإخوان وكراً وكروان، كما قال الشاعر‏:‏

لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات ولا نطير

والضعيف في العربية كِرْوان جمع كَرَوَان، وصُفِي وصِفِي جمع صفا مثل عصا‏.‏ والوابل‏:‏ المطر الشديد‏.‏ وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ومنه قوله تعالى‏{‏أخذناه أخذا وبيلا‏}‏المزمل‏:‏ 16‏]‏ أي شديدا‏.‏ وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد‏.‏ والصلد‏:‏ الأملس من الحجارة‏.‏ قال الكسائي‏:‏ صَلِد يَصْلَدُ صَلَدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان، وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد، وأنشد الأصمعي لرؤبة‏:‏

براق أصلاد الجبين الأجله

قال النقاش‏:‏ الأصلد الأجرد بلغة هذيل‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يقدرون‏{‏ يعني المرائي والكافر والمان ‏{‏على شيء‏{‏ أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب‏.‏ وقيل‏:‏ ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏265‏)‏

‏{‏ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم‏{‏ ‏{‏ابتغاء‏{‏ مفعول من أجله‏.‏ ‏{‏وتثبيتا من أنفسهم‏{‏ عطف عليه‏.‏ وقال مكي في المشكل‏:‏ كلاهما مفعول من أجله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو مردود، ولا يصح في ‏{‏تثبيتا‏{‏ أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏{‏ نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو ‏{‏تثبيتا‏{‏ عليه‏.‏ ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏{‏ معناه طلب‏.‏ و‏{‏مرضات‏{‏ مصدر من رضي يرضى‏.‏ ‏{‏وتثبيتا‏{‏ معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله مجاهد والحسن‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان الرجل إذا هم بصدقه تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وقتادة‏:‏ معناه واحتسابا من أنفسهم‏.‏ وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم‏{‏وتثبيتا‏{‏ معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا‏.‏ وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته ‏{‏وتثبيتا‏{‏ مصدر على غير المصدر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتا‏}‏نوح‏:‏ 17‏]‏، ‏{‏وتبتل إليه تبتيلا‏}‏المزمل‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول‏:‏ أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا مهْيَعُ كلام العرب فيما علمته‏.‏ وقال النحاس‏:‏ لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما، وقول قتادة‏:‏ احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد‏.‏ وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال‏:‏ ثبت فلانا في هذا الأمر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك‏.‏ وقيل‏{‏وتثبيتا من أنفسهم‏{‏ أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب‏.‏

قوله تعالى‏{‏كمثل جنة بربوة‏{‏ الجنة البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم‏.‏ وقد تقدم‏.‏ والربوة‏:‏ المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن‏.‏ وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية‏{‏زوجي كليل تهامة‏{‏‏.‏ وقال السدي‏{‏بربوة‏{‏ أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه عبارة قِلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد‏.‏

قلت‏:‏ عبارة السدي ليست بشيء، لأن بناء ‏{‏رَبَ و‏{‏ معناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالىِ‏.‏ ربا يربو إذا أخذه الربو‏.‏ وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع‏.‏ وقال الفراء في قوله تعالى‏{‏أخذهم أخذة رابية‏}‏الحاقة‏:‏ 10‏]‏ أي زائدة، كقولك‏:‏ أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت‏.‏ وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم‏.‏ وقال الخليل‏:‏ الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، لأن قوله تعالى‏{‏أصابها وابل‏{‏ إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين‏.‏ والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر‏.‏ وفيها خمس لغات ‏{‏ربوة‏{‏ بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو‏.‏ و‏{‏ربوة‏{‏ بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن‏.‏ ‏{‏وربوة‏{‏ بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي‏.‏ و‏{‏رباوة‏{‏ بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبدالرحمن، وقال الشاعر‏:‏

من منزلي في روضة برباوة بين النخيل إلى بقيع الغرقد‏؟‏

و ‏{‏رباوة‏{‏ بالكسر، وبها قرأ الأشهب العقيلي‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويقال بِرَباوة وبرِباوة، وكله من الرابية، وفعله ربا يربو‏.‏

قوله تعالى‏{‏أصابها‏{‏ يعني الربوة‏.‏ ‏{‏وابل‏{‏ أي مطر شديد قال الشاعر‏:‏

ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل

قوله تعالى‏{‏فآتت‏{‏ أي أعطت‏.‏ ‏{‏أكلها‏{‏ بضم الهمزة‏:‏ الثمر الذي يؤكل، ومنه قوله تعالى‏{‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏‏.‏ والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل‏.‏ والأكلة‏:‏ اللقمة، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين‏)‏ يعني لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم‏.‏ وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار‏.‏ وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة‏.‏ وقرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏أكلها‏{‏ بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أُكُلَه أو كان غير مضاف إلى شيء مثل ‏{‏أكل خمط‏{‏ فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل‏.‏ ويقال‏:‏ أَكْل وأُكُل بمعنى‏.‏ ‏{‏ضعفين‏{‏ أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن لم يصبها وابل فطل‏{‏ تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها‏.‏ قال المبرد وغيره‏:‏ تقديره فطل يكفيها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ فالذي يصيبها طل‏.‏ والطل‏:‏ المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة‏.‏ وقال قوم منهم مجاهد‏:‏ الطل‏:‏ الندى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو تجوز وتشبيه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة وَبَلَت وأوْبَلَت، وطَلّت وأَطَلّت‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه‏:‏ طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع‏.‏ قال بعضهم الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين‏.‏ يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين‏.‏

قلت‏:‏ التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير‏.‏ فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفُلُوّ والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا‏.‏ وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم‏)‏ خرجه الموطأ أيضا‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله بما تعملون بصير‏{‏ وعد ووعيد‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏يعملون‏{‏ بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض‏.‏

 الآية رقم ‏(‏266‏)‏

‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏{‏ الآية‏.‏ حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول‏.‏

قلت وروي عن ابن عباس أيضا قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها‏.‏ وحكي عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ الآية، قال‏:‏ ثم ضرب في ذلك مثلا فقال‏{‏أيود أحدكم‏{‏ الآية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام‏.‏ وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا‏.‏

قلت‏:‏ قد روي عن ابن عباس أنها مثل لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلا أن الذي ثبت في البخاري عنه خلاف هذا‏.‏ خرج البخاري عن عبيد بن عمير قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيم ترون هذه الآية نزلت ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏{‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال‏:‏ قولوا‏:‏ نعلم أو لا نعلم‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس‏:‏ ضربت مثلا لعمل‏.‏ قال عمر‏:‏ أي عمل‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله‏.‏ في رواية‏:‏ فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضى ذلك عمر‏.‏ وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية‏.‏ وقال‏:‏ هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم‏.‏ وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏جنات‏{‏ بالجمع‏.‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏{‏ تقدم ذكره‏.‏ ‏{‏له فيها من كل الثمرات‏{‏ يريد ليس شيء من الثمار إلا وهو فيها نابت‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأصابه الكبر‏{‏ عطف ماضيا على مستقبل وهو ‏{‏تكون‏{‏ وقيل‏{‏يود‏{‏ فقيل‏:‏ التقدير وقد أصابه الكبر‏.‏ وقيل إنه محمول على المعنى، لأن المعنى أيود أحدكم أن لو كانت له جنة‏.‏ وقيل‏:‏ الواو واو الحال، وكذا في قوله تعالى ‏{‏وله‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت‏{‏ قال الحسن‏{‏إعصار فيه نار‏{‏ ريح فيها برد شديد‏.‏ الزجاج‏:‏ الإعصار في اللغة الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يقال لها‏:‏ الزوبعة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة‏.‏ ويقال‏:‏ أم زوبعة، وهي ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود‏.‏ وقيل‏:‏ الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق‏.‏ المهدوي‏:‏ قيل لها إعصار لأنها تلتف كالثوب إذا عصر‏.‏ ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏

قلت‏:‏ بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء‏.‏ وإما لأنها تنعصر بالرياح‏.‏ وحكى ابن سيده‏:‏ إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب‏.‏ ابن زيد‏:‏ الإعصار ريح عاصف وسموم شديدة، وكذلك قال السدي‏:‏ الإعصار الريح والنار السموم‏.‏ ابن عباس‏:‏ ريح فيها سموم شديدة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويكون، ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها، كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏ و‏(‏إن النار اشتكت إلى ربها‏)‏ الحديث‏.‏ وروي عن ابن عباس وغيره‏:‏ ‏(‏إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء - يريد صبيانا بنات وغلمانا - فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار فأحرقته، ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم‏.‏ وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏{‏ يريد كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏267‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا‏{‏ هذا خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السلماني وابن سيرين‏:‏ هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد‏.‏ والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة‏.‏ تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افْعَلْ صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهي عنه في النقل كما هو منهي عنه في الفرض، والله أحق من اختير له‏.‏ وروى البراء أن رجلا علق قِنْوَ حَشَف، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏بئسما علق‏)‏ فنزلت الآية، خرجه الترمذي وسيأتي بكماله‏.‏ والأمر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار‏.‏ وجمهور المتأولين قالوا‏:‏ معنى ‏{‏من طيبات‏{‏ من جيد ومختار ‏{‏ما كسبتم‏{‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ من حلال ‏{‏ما كسبتم‏{‏‏.‏

الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتي حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه‏.‏ والميراث داخل في هذا، لأن غير الوارث قد كسبه‏.‏ قال سهل بن عبدالله‏:‏ وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن‏.‏ قال‏:‏ إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف نفسه عن الناس فترك هذا أفضل، لأنه إذا طلب حلالا وأنفق في حلال سئل عنه وعن وكسبه وعن إنفاقه، وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومما أخرجنا لكم من الأرض‏{‏ يعني النبات والمعادن والركاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية‏.‏ أما النبات فروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة‏)‏‏.‏ والوَسْق ستون صاعا، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب‏.‏ وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة‏.‏ وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقول الله تعالى‏{‏ومما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏{‏الأنعام‏{‏ مستوفى‏.‏ وأما المعدن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏العجماء جرحها جُبَار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ لما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وفي الركاز الخمس‏)‏ دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز، لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس، فلما قال ‏(‏وفي الركاز الخمس‏)‏ علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم‏.‏

والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك، لأنهم يقولون في الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب، فيها الخمس، لأنها ركاز‏.‏ وقد‏"‏روى عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء‏.‏ وروى عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركاز قال‏:‏ ‏(‏الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السماوات والأرض‏)‏‏.‏ عبدالله بن سعيد هذا متروك الحديث، ذكر ذلك ابن أبي حاتم‏.‏ وقد‏"‏روى من طريق أخرى عن أبي هريرة ولا يصح، ذكره الدارقطني‏.‏ ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة‏.‏

واختلفوا في حكم الركاز إذا وجد، فقال مالك‏:‏ ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أو في فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفيه الخمس، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة‏.‏ قال‏:‏ وما وجد من ذلك في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده، وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس، ولا شيء للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو لجملة أهل الصلح‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله، فكان له أربعة أخماسه‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا‏:‏ إن فيه الخمس ثم رجع فقال‏:‏ لا أرى فيه شيئا، ثم آخر ما فارقناه أن قال‏:‏ فيه الخمس‏.‏ وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء‏.‏ وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار‏:‏ إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس‏.‏ وخالفه أبو يوسف فقال‏:‏ إنه للواجد دون صاحب الدار، وهو قول الثوري‏:‏ وان وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفيه الخمس‏.‏ ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها، وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين‏.‏ ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شيء من ذلك وقالوا‏:‏ سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لأحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفيه الخمس على عموم ظاهر الحديث، وهو قول الليث وعبدالله بن نافع والشافعي وأكثر أهل العلم‏.‏

وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه، فقال مالك وأصحابه‏:‏ لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس أواق فضة، فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه‏.‏ والركاز عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولا‏.‏ قال سحنون في رجل له معادن‏:‏ إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكى إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد‏.‏ وقال محمد بن مسلمة‏:‏ يضم بعضها إلى بعض ويزكى الجميع كالزرع‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ المعدن كالركاز، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاه لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة‏.‏ فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه‏.‏ وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل، وهو قول الثوري‏.‏ وذكر المزني عن الشافعي قال‏:‏ وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن‏.‏ قال المزني‏:‏ الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه‏.‏ وقال الليث بن سعد‏:‏ ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولا، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول‏)‏ أخرجه الترمذي والدارقطني‏.‏ واحتجوا أيضا بما رواه عبدالرحمن بن أنعم عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهيبة في تربتها، بعثها علي رضي الله عنه من اليمن‏.‏ قال الشافعي‏:‏ والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة‏.‏ وحجة مالك حديث عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة‏.‏ وهذا حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة‏.‏ ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه‏.‏ ذكره البزار، ورواه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها‏.‏ وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، ذكره البزار أيضا، وكثير مجمع على ضعفه‏.‏ هذا حكم ما أخرجته الأرض، وسيأتي في سورة ‏[‏النحل‏]‏ حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض‏.‏ ويأتي في ‏{‏الأنبياء‏{‏ معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏العجماء جرحها جبار‏)‏ كل في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏{‏ تيمموا معناه تقصدوا، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القصد في ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ودلت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث‏.‏ وروى النسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏{‏ قال‏:‏ هو الجعرور ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة‏.‏ وروى الدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السحل بكبائس قال سفيان‏:‏ يعني الشيص - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جاء بهذا‏)‏ ‏؟‏ وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به‏.‏ فنزلت‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏{‏‏.‏ قال‏:‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة - قال الزهري‏:‏ لونين من تمر المدينة - وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه، وسيأتي‏.‏ وحكى الطبري والنحاس أن في قراءة عبدالله ‏{‏ولا تأمموا‏{‏ وهما لغتان‏.‏ وقرأ مسلم بن جندب ‏{‏ولا تيمموا‏{‏ بضم التاء وكسر الميم‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏تيمموا‏{‏ بتشديد التاء‏.‏ وفي اللفظة لغات، منها ‏{‏أممت الشيء‏{‏ مخففة الميم الأولى و‏{‏أممته‏{‏ بشدها، و‏{‏يممته وتيممته‏{‏‏.‏ وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ ‏{‏ولا تؤمموا‏{‏ بهمزة بعد التاء المضمومة‏.‏

قوله تعالى‏{‏منه تنفقون‏{‏ قال الجرجاني في كتاب ‏{‏نظم القرآن‏{‏‏:‏ قال فريق من الناس‏:‏ إن الكلام تم في قوله تعالى ‏{‏الخبيث‏{‏ ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال‏{‏منه تنفقون‏{‏ وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع‏.‏ والضمير في ‏{‏منه‏{‏ عائد على الخبيث وهو الدون والرديء‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ وقال فريق آخر‏:‏ الكلام متصل إلى قوله ‏{‏منه‏{‏، فالضمير في ‏{‏منه‏{‏ عائد على ‏{‏ما كسبتم‏{‏ ويجيء ‏{‏تنفقون‏{‏ كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك‏:‏ أنا أخرج أجاهد في سبيل الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏{‏ أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه‏.‏ أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، قال معناه البراء بن عازب وابن عباس والضحاك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معنى الآية‏:‏ ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه‏.‏ وروي نحوه عن علي رضي الله عنه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لو كانت في الفرض لما قال ‏{‏ولستم بآخذيه‏{‏ لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل‏.‏ وقال البراء بن عازب أيضا معناه‏{‏ولستم بآخذيه‏{‏ لو أهدى لكم ‏{‏إلا أن تغمضوا فيه‏{‏ أي تستحي من المهدي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا يشبه كون الآية في التطوع‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا أن تغمضوا فيه‏{‏ كذا قراءة الجمهور، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، ومن ذلك قول الطرماح‏:‏

لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ل أناس يرضون بالإغماض

وقد يحتمل أن يكون منتزعا إما من تغميض العين، لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه - قال‏:‏

إلى كم وكم أشياء منك تريبني أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالإغضاء عند المكروه‏.‏ وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية - وأشار إليه مكي - وإما من قول العرب‏:‏ أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر، كما تقول‏:‏ أعمن أي أتى عمان، وأعرق أي أتى العراق، وأنجد وأغور أي أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، أي فهو يطلب التأويل على أخذه‏.‏ وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وعنه أيضا‏.‏ ‏{‏تغمضوا‏{‏ بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدها‏.‏ فالأولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم‏.‏ والثانية، وهى قراءة قتادة فيما ذكر النحاس، أي تأخذوا بنقصان‏.‏ وقال أبو عمرو الداني‏:‏ معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان‏.‏ وحكى مكي عن الحسن ‏{‏إلا أن تغمضوا‏{‏ مشددة الميم مفتوحة‏.‏ وقرأ قتادة أيضا ‏{‏تغمضوا‏{‏ بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا‏.‏ قال أبو عمرو الداني‏:‏ معناه إلا أن يغمض لكم، وحكاه النحاس عن قتادة نفسه‏.‏ وقال ابن جني‏:‏ معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس‏.‏ وهذا كما تقول‏:‏ أحمدت الرجل وجدته محمودا، إلى غير ذلك من الأمثلة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض‏.‏ وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك، إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهدى أو مأخوذا في دين على قول غيره‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ ومن قرأ ‏{‏تغمضوا‏{‏ فالمعنى تغمضون أعين بصائركم عن أخذه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وغمضت عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأغمضت، وقال تعالى‏{‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ أغمض لي فيما بعتني، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ في موضع نصب، والتقدير إلا بأن‏.‏

قوله تعالى‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏{‏ نبه سبحانه وتعالى على صفة الغني، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر وبال، فإنما يقدم لنفسه‏.‏ و‏{‏حميد‏{‏ معناه محمود في كل حال‏.‏ وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في ‏{‏الكتاب الأسنى‏{‏ والحمد لله‏.‏ قال الزجاج في قوله‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏{‏‏:‏ أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏268‏)‏

‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الشيطان‏{‏ تقدم معنى الشيطان واشتقاقه فلا معنى لإعادته‏.‏ و‏{‏يعدكم‏{‏ معناه يخوفكم ‏{‏الفقر‏{‏ أي بالفقر لئلا تنفقوا‏.‏ فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهي المعاصي والإنفاق فيها‏.‏ وقيل‏:‏ أي بأن لا تتصدقوا فتعصوا وتتقاطعوا‏.‏ وقرئ ‏{‏الفُقْر‏{‏ بضم الفاء وهي لغة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والفقر لغة في الفقر، مثل الضُّعف والضَّعف‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يعدكم مغفرة منه وفضلا‏{‏ الوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقدر بالخير وبالشر كالبشارة‏.‏ فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان‏.‏ وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان - ثم قرأ - الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ ويجوز في غير القرآن ‏{‏ويأمركم الفحشاء‏{‏ بحذف الباء، وأنشد سيبويه‏:‏

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة‏.‏ والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى‏.‏

ذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس في الآية حجة قاطعة بل المعارضة بها قوية‏.‏ وروي أن في التوراة ‏(‏عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة‏)‏‏.‏ وفي القرآن مصداقه وهو قوله‏{‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏}‏سبأ‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ذكره ابن عباس‏.‏ ‏{‏والله واسع عليم‏{‏ تقدم معناه‏.‏ والمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يعطي من سعة ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة‏.‏ وهما اسمان من أسمائه ذكرناهما في جملة الأسماء في ‏(‏الكتاب الأسنى‏)‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏269‏)‏

‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يؤتِ الحكمة من يشاء‏{‏ أي يعطيها لمن يشاء من عباده‏.‏ واختلف العلماء في الحكمة هنا، فقال السدي‏:‏ هي النبوة‏.‏ ابن عباس‏:‏ هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره‏.‏ وقال قتادة ومجاهد‏:‏ الحكمة هي الفقه في القرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الإصابة في القول والفعل‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الحكمة العقل في الدين‏.‏ وقال مالك بن أنس‏:‏ الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له‏.‏ وروى عنه ابن القاسم أنه قال‏:‏ الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له‏.‏ وقال أيضا‏:‏ الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ الحكمة الخشية‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ الحكمة الفهم في القرآن، وقاله زيد بن أسلم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الحكمة الورع‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأقوال كلها ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة‏.‏ وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم‏.‏ وفي البخاري‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين‏)‏ وقال هنا‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا‏{‏ وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها، وتنبيها على شرفها وفضلها حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏{‏فبدل الذين ظلموا قولا‏}‏البقرة‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده‏:‏ حدثنا مروان بن محمد حدثنا رفدة الغساني قال‏:‏ أخبرنا ثابت بن عجولان الأنصاري قال‏:‏ كان يقال‏:‏ إن الله يريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم‏.‏ قال مروان‏:‏ يعني بالحكمة القرآن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب‏{‏ يقال‏:‏ إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا فقال‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏{‏ وسمى العلم والقرآن ‏{‏خيرا كثيرا‏{‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ومن يؤت‏{‏ على بناء الفعل للمفعول‏.‏ وقرأ الزهري ويعقوب ‏{‏ومن يؤت‏{‏ بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة، فالفاعل اسم الله عز وجل‏.‏ و‏{‏من‏{‏ مفعول أول مقدم، والحكمة مفعول ثان‏.‏ والألباب‏:‏ العقول، واحدها لب وقد تقدم‏.‏